كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



روي عن عطاء بن يسار أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: لا تحل الصّدقة لغني إلّا لخمسة: لغاز في سبيل اللّه، أو لعامل عليها، أو لرجل أسير إعانة، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق عليه فأهدى المسكين للغني- أخرجه أبو داود مرسلا لأن عطاء هذا لم يدرك النبي صلّى اللّه عليه وسلم، ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن سعيد الخدري عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم بمعناه {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} الغزاة {وَابْنِ السَّبِيلِ} المسافر الذي انقطع عن أهله وماله وإن كان غنيا في بلده، لأنه لا يطوله ولا يعرف من يقرضه في المحل الذي انقطع فيه، فهؤلاء الأصناف الثمانية يعطون من صدقة الفرض الواجبة على الأغنياء كما يعطون من غيرها أيضا {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} لهم على حسب الترتيب الوارد في هذه الآية، لأن الفقير أحوج من المسكين، لأنه من لا مال له ولا كسب، والمسكين من لا يكفيه كسبه.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم، اللهم إني أعوذ بك من الفقر.
وقال: أحيني مسكينا واحشرني مع المساكين.
وهو أحوج من المؤلفة قلوبهم، وهكذا إذا اجتمعوا يقدم الأحوج في الإعطاء.
واعلم أن الحصر في هذه الآية المصدرة بأداة الحصر يفيد عدم جواز دفع الصّدقة الواجبة لغيرهم، وهو كذلك كما سيأتي بعد {وَاللَّهُ عَلِيمٌ}
بمصالح عباده وحاجتهم {حَكِيمٌ} [60] في تخصيص الصّدقات لهؤلاء الأصناف الثمانية.
أخرج أبو داود عن زياد بن الحارث المدائني قال: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فبايعته، فأتاه رجل فقال أعطني من الصّدقة، فقال له صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصّدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية اجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك.
الحكم الشّرعي:
في إيجاب اللّه الزكاة على عباده امتحانهم فيما آتاهم وتكليفهم ما يشقّ عليهم فعله، ليختبر الطّائع المعطي من العاصي المانع، ويظهره للناس فيعلمهم بمن له شفقة على عباده من غيره، لأن المال ماله والأغنياء وكلاؤه عليه وخزانه له، والفقراء عياله، ولأن كثرة المال تقسي القلب وتغرقه في حب الدّنيا، فأراد اللّه تعالى بالتصدق منه تقليل ذلك الحب لئلا تنهمك نفسه في شهوات الدّنيا ولذاتها فيهلك، ولأن المال من أول أسباب البعد عن اللّه تعالى، والتصدق به من أول أسباب التقرب إليه.
ولا يقال هنا أن الدّين يسر ولا حرج فيه ولا يكلف اللّه نفسا الا وسعها إلى غير ذلك من التمسك بحجج الجشعين بالمال المتكالبين عليه، لأن اللّه لم يكلف رب المال التصدق بكل ما عنده أو بنصفه أو عشرة حتى يكون مدار للاحتجاج، وانما كلفه بشيء يسير منه لا عسر في أدائه عليه ولا كلفة، وهو في نطاق الوسع، لأن الخارج عن الوسع هو ما لا قدرة للمرء على القيام به.
ولو علم المتصدق ماله عند اللّه من الأجر وكانت نفسه طاهرة لأحب التصدق بما يفضل عن حاجته فضلا عن إعطائه ما فرضه اللّه عليه وهو ربع العشر، تطييبا لقلوب الفقراء المتعلقة قلوبهم بما في أيدي الأغنياء لينالوا نصيبهم من الانتفاع به، فيحصل على دعواتهم الخيرية، ورب دعوة صادفت وقت اجابة فينال عند اللّه ما هو خير من الدّنيا وما فيها.
أخرج النّسائي وأبو داود عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لا تحلّ الصّدقة لغني ولا لذي مرّة (سوي قوي).
وأخرجا عن عبد اللّه بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات، فسألاه منها فرفع فينا نظره وخفضه فرآنا جلدين، فقال ان شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب.
أي لا يحل لكما أخذ شيء من الصّدقة لأنكما قادران على الكسب والقادر كالغني، والغني لا يجوز له أخذ الصدقة، كما لا يجوز إعطاؤها له.
هذا وإن حد الغنى المانع من السّؤال وقبول الصدقة هو ما روي عن ابن مسعود أنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من سأل النّاس وله ما يغنيه جاء يوم القيمة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح، قيل يا رسول اللّه وما يغنيه؟ قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب أخرجه أبو داود والترمذي والنّسائي- وهذا لا يجوز له الأخذ من الزكاة إذا كان مالكا هذا القدر، ولا يجوز للمتصدق أن يتصدق على واحد بأكثر من خمسين درهما فضة أو قيمتها من الذهب من الزكاة، لأنه يصير الفقير المتصدّق عليه بذلك غنيا ولا يجوز للمتصدق أن يعطيه إذا كان عالما بحاله، كما لا يجوز له الأخذ، وان جباة المال العاملين على جمع الصّدقات يعطون منها بقدر أجر مثلهم أغنياء كانوا أو فقراء، لأن ما يأخذون بمقابل جمعهم الصّدقة كسائر العمال الّذين يتقاضون راتبا لقاء أعمالهم التي تعهد إليهم.
ولما كان الهاشمي والمطلبي لا يجوز لهم أخذ الصّدقة فلا يجوز أن يكونوا عمالا عليها لأن أجرهم يكون منها، فإذا أعطوا منها لا تجزئ كما لو أعطيت للغني، ويجب إعادتها لأن إقدامهم على حرمة أخذها لا يسقط وجوبها عن المعطين العالمين.
أما الجاهلون حال المتصدق عليهم فلا إعادة عليهم وسقط عنهم الوجوب، لأنهم أعطوها لهم بظنهم فقراء غير هاشميين ولا مطلبيين.
قال صلّى اللّه عليه وسلم إنا وبنو عبد المطلب شيء واحد لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام.
وتحرم الصدقة على مواليهم أيضا، أخرج الترمذي والنّسائي عن أبي رافع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم استعمل رجلا من بني مخزوم على الصّدقة، فأراد أبو رافع أن يتبعه، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لا تحل لنا الصّدقة وإن مولى القوم منهم.
وكان صلّى اللّه عليه وسلم يعطي أشراف العرب يتألفهم الإسلام لضعف عقيدتهم لتقوى رغبتهم فيه وتكون نيتهم جازمة بفعل أركان الدين.
وكان يقربهم تألفا لقومهم وترغيبا لأمثالهم، وذلك من خمس الخمس، كما أعطى أبا سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والعباس بن مرداس.
وكان صلّى اللّه عليه وسلم يدفع منه إلى المسلمين الّذين هم في موضع لا تبلغه جيوش الإسلام إلّا بكلفة كبيرة ومؤنة كثيرة، والمسلمون الّذين هم بإزائهم لا يجاهدونهم لضعف حالهم أو عقيدتهم.
كما أعطى أبو بكر رضي اللّه عنه عدي بن حاتم ثلاثين بعيرا، وكذلك كان يعطي مؤلفة الكفار الّذين يرجى إسلامهم أو يخاف شرهم، فقد أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم صفوان بن أمية لما كان يرى من ميله إلى الإسلام ليستميلهم ويقوى نيتهم فيه، وكيفية إعطاء الصّدقة أن تعطى الأصناف الأربعة الأوّل إليهم بأيديهم بدليل لام الملكية، والصّنف الخامس يعطى نصيبهم منها إلى أسيادهم لتخليص رقابهم ولا يمكنون منها ليتصرفوا فيها.
وكذلك الصّنف السّادس وهم الغارمون بنوعيهم فانه يعطى نصيبهم لدائنيهم لتخليص ذمتهم من الدّين، ولا يمكنون من التصرف به أيضا، والصّنف السّابع يعطى من الصّدقة بقدر ما يوصله إلى مسكنه أو غرضه، والصّنف الثامن يعطون ما يكفيهم من الصّدقة للنفقة والكسوة والسّلاح والمحمولة وإن كانوا أغنياء، لما تقدم في حديث عطاء بن يسار المار ذكره آنفا.
ويجوز صرف نصيب.
الصنف السّابع البر لعموم اللّفظ كتكفين وتجهيز ودفن الموتى الفقراء، وبناء الجسور والحصون والمساجد والمكاتب التي يدرس فيها القرآن العظيم والفقه والحديث وما يتفرع عنها، ودور المرضى والمجانين لقلة وجودها في هذا الزمن، ولاسيما ما يأوي اليه الفقراء والمنقطعون في البوادي، وطريق الحج وغيره، وعلى المتصدق أن يختار في صدقته الأصلح ولاسيما طلبة العلم لقلة الرّغبة فيه، وبهذا الزمن للترغيب في طلبه والسّفر إلى من يأخذوا عنه إذا لم يوجد في بلده من يعلمه.
وهم قليل ولاسيما في هذه الأيام، وقد سهل السّفر إذ تقاربت البلدان بسبب السّيارات والطّيارات وتعبيد الطّرقات إلى أي بلدة شاء.
ويطلب من المتصدّق أن يتحرى موضع الحاجة في صدقته، ويقدم الأولى فالأولى، ولا يعطيها فروعه وأصوله وزوجاته وكلّ من تلزمه نفقته، والأولى أن يصرفها لفقراء بلدته ومن فيها من الأصناف، ويجوز أن ينقلها لمحل آخر يقصد دفعها للأحوج والأصلح والقريب الفقير، قال صلّى اللّه عليه وسلم اختاروا لنفقاتكم كما تختارون لنطفكم، ويرجح الفقراء من أقاربه على غيرهم، لأن الصّدقة عليهم صدقة وصلة.
هذا وإن فضل الصّدقة قد بيناه في [الآية 291] فما بعدها من سورة البقرة فراجعها تقف على جميع أصنافها وثوابها.
قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} محمدا صلّى اللّه عليه وسلم {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} سماع قوى جارحة السّمع كثيرة، ويعبر علماء البيان عن مثل هذا بإطلاق الجزء على الكل مبالغة، أي كأنه كله سمع لشدة سماعه، وقوة حاسته، وعليه قوله:
إذا ما بدت ليلى فكلي أعين وإن هي ناجتني فكلي مسامع كما يطلق الكل على الجزء في مثل قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ} [الآية 16] من البقرة أي رءوسها، ويريد المنافقون في هذه الكلمة أنه صلّى اللّه عليه وسلم يصدق كل ما يسمعه ويقبله دون تحقيق عن صحته، وهذا هو معنى الأذن عندهم، فانهم يطلقون هذه الجارحة على من شأنه سماع الكلام وقبوله على علاته باعتبار أن جملته أذن سامعة ويقصدون بذلك الطّعن به صلّى اللّه عليه وسلم، أي أنه ليس بعيد غور في الأمور، بل هو سريع الاغترار بكل ما يسمع دون تروّ ونظر، قاتلهم اللّه وأخزاهم، فإنهم أخذوا شيئا من عادات اليهود بمثل هذا راجع [الآية 105] من سورة البقرة المارة، مع أنهم واليهود سواء، بل هم شر من اليهود يعلمون علم اليقين أنه صلّى اللّه عليه وسلم أكمل البشر في حركاته وسكناته ومبرأ من كلّ عيب ومنزّه من كلّ طعن، ولكنهم لا يريدون أن يعترفوا بذلك حسدا وعنادا، وقد أنزل اللّه هذه الآية في جماعة من المنافقين كانوا يجلسون بعضهم إلى بعض ويقولون ما لا ينبغي بحق الرّسول، كاليهود في هذه العادة، فقال أحدهم نبتل بن الحارث نخاف أن يبلعه قولنا، وكان ينمّ حديث الرّسول إليهم وكان مشوّه الخلقة أزنم ثائر الشّعر أحمر العينين أسفع الخدين، وقد قال فيه صلّى اللّه عليه وسلم من أحب أن ينظر إلى الشّيطان فلينظر إليه، فقال له الجلاس بن سويد إذا بلغه قولنا ننكره ونحلف له فيصدقنا لأنه أذن.
قال تعالى: {قُلْ} يا سيد الرّسل لهؤلاء الفجرة هب أني أذن كما تقولون، ولكن {أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أسمع ما هو صالح لكم لا ما هو شرّ وفساد، والمعنى أنكم كما تقولون، ولكنه نعم الأذن، لأنه مسمع خير لا على الوجه الذي تذمّونه به، لأنه يقبل منكم ما تقولون وتعتذرون به، مع علمه أنه خلاف الواقع لكرم أخلاقه وعلو آدابه، فإنه يتغافل عما لا يليق ولا يريد أن يكذبكم وقرئ (أذن وخير) بالتنوين وبلا تنوين أذن، وجرّ خير بالإضافة كقولك رجل صدق، وشاهد عدل، فإنه يجوز فيهما الحالان.
ثم ذكر بعض أوصاف حضرة الرّسول الذي يريدون مس كرامته مسهم اللّه بناره، فقال: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} ويوقن بوعده ويوفي بعهده ويصدق بوحدانيته {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} بصدقهم ويخشى ظنه بهم ويريد لهم الخير، وقد جاءت التعدية أولا بالباء لأن الإيمان باللّه نقيض الكفر فلا يتعدى إلّا بالباء، وثانيا باللام لأنه عبارة في تصديق المؤمنين، فلا يتعدى إلا باللام، تأمل.
واعلم أن القرآن هو مصدر العربية ومن بحره أخذ علماؤها قواعدها ووضعوا أصولها، وإياك أن تتصور العكس فيعكس عليك.
قال تعالى: {أنؤمن لك} [الآية 112] وقال: {آمنتم له} [الآية 47] من سورة الشّعراء، وقال: {وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا} [الآية 17] من سورة يوسف بما يدل على ذلك وغيرها في القرآن كثير {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} إيمانا كاملا لا نفاقا، وسمي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رحمة لأنه يحمل أحكام النّاس على الظّاهر، ولا ينقب عن بواطن أحوالهم، ولا يهتك أسرارهم.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ} من المنافقين وغيرهم بالقول أو الفعل أو الإشارة أو اللّمز {لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 61} في الآخرة عدا خزي الدّنيا ومن مثالبهم ما قاله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} {لِيُرْضُوكُمْ} بظواهرهم {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ} [62] حقا والحال أن اللّه ورسوله أولى بأن يرضوهما حقيقة لا تصنعا ورياء، وذلك أن المنافقين اجتمعوا في دار أحدهم وصاروا يتداولون في حق الرّسول، فقال وريقة بن ثابت إن كان ما يقوله محمد حقا فهو شر من الحمير، فقال عامر بن قيس من غلمان الأنصار إن ما يقوله محمد حق وأنت شر من الحمير، فحقروه، فجاء فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بذلك، فاستدعاهم فسألهم، فأنكروا وحلفوا أن عامرا كذاب، وحلف عامر أنه صادق وأنهم كذبة، وقال اللّهم صدق الصّادق وكذب الكاذب، فنزلت هذه الآية.